إشراقة
اللَّبَاقَة
والنَّبَاهَة
اللَّبَاقَةُ
كلمةٌ شاملةٌ
في اللغة
العربيّة
العبقريّة
الكريمة، ومن
معانيها:
الظَرَافَة
والكِيَاسة
والحِذْقُ
وإحكامُ كلّ
عمل
والاتيانُ به
على ما ينبغي
وأداؤه بأحسن
وجه يكون. وهي
صفةٌ ما
وُجِدَت في
شخص إلاّ
زانته، وما
عَدِمَها
إلاّ شانته،
وهي
مَجْلَبَةٌ
للسعادة بحذافيرها،
ومَدْفَعَةٌ
للشقاء
بأنواعه؛ فمن
أُعْطِيَها
أعْطِيَ
حظّاً وافرًا
من السعادة
والجدّ،
وأبواباً من
الخير
لاتنغلق،
وطُرُقًا من
النجاح
والانتصار
لاتنسدّ
أبدًا، وسُبُلاً
من الانتصار
في جميع معارك
الحياة لاتخون
في موقف من
المواقف.
إنّها سلاحٌ
أمضى يكسب به
الرجل كلَّ
معركة، ويدفع
به عن نفسه
كلَّ أذى،
وإنّها آلةٌ
سِحْرِيَّة
يُتْقِن بها
صاحبُها كلَّ
عمل، وحجُر
فلاسفة
يُحَوِّل به
من يملكه
الترابَ
تِبْرًا.
جَرَّبْتُ كثيرًا ممن يَحْظَوْنَ بها، كما مُنِيتُ بكثير ممن يُحْرَمُونَها، فسَعِدْتُ بالأوّلين، وشَقِيْتُ بالآخَرين. ربّما حدث أنه دَخَلَ عليّ رجالٌ ممن يجوز أن يُصَنَّفُوا لَبِقِين وأنا في ذروة الزحام بالأعمال الرتيبة، ولم يكن بوسعي أن أَقْطَعَها أو أُؤَخِّرها لوقت آتٍ. وفي مثل هذا الوقت أكره أشدَّ الكراهية أن يدخل عليَّ أحدٌ ولاسيّما بدون تنسيق مُسَبَّقٍ وأخذِ موعد للقاء، فلم أتضايق بهم؛ لأنهم تعاملوا معي بلباقة أَنْشَأَتْ لديّ حبًّا لهم، وعطفت عليهم عنانَ عنايتي، واضْطرَّتْني أن أهتمّ بهم، وأقتطع لهم فرصةً من أوقاتي المزدحمة بالوظائف والمسؤوليّات؛ لأنهم فَاتَحُوني بأسلوب لبق ظريف، معتذرين عن اقتحامهم وقتَ شغلي بالفرائض بنحو مَرَىٰ لهم قلبي و استعطفه، فلم أكتفِ بإكرامهم إكرامَ الضيوف المحترمين، وإنما قضيتُ لهم ما أَقْدَمَهم إليَّ، فشكروا لي هذا المعروفَ وحَفِظُوه دائماً، ودَعَوْا لي بالخير بالنسبة إليه.
ومن
جانب آخر
ربّما أطلّ
عليّ أناسٌ،
كانوا بَلاَدِمَ
خُرْقًا
حقًّا؛ حيث
اقتحموا عليّ دونما
إذن، ودونما
اعتذار،
وفَرَضُوا
عليَّ
حوائجهم،
وطالبوني
بتحقيقها،
كأني «رقيق»
لهم أو «مدين»
منذ قديم
الزمان: منذ
عهد أجدادهم،
أو كأني إنما
عُيِّنْتُ
مُوَظَّفاً
في عمليّة
التدريس
والكتابة في
جامعة «ديوبند»
لأَفِيَ
بحاجاتهم،
وأُحَقِّق
آمالَهم! وكانوا
أبعد ما
يكونون من كل
ما تعنيه كلمة
«اللباقة»
أو «النباهة»
أو «الظرافة»
أو «التهذيب»
فكانوا أثقل
عليّ من
الجبل، وأكره
إليّ من الخصوم،
وأتفه لديّ من
البعوضة فما
فوقَها.
وهنا
أدركت أنّ
اللباقةَ
نعمة كبرى،
وعلى العكس
أنّ الخرق
والبلادة
نقمة يخلق
الله من يشاء
عليها لحكمة
يعلمها ولا
ولن نعلمها
نحن البشر. إن
اللباقة هي
وحدها التي
تُعَلِّم
الإنسانَ كيف
يدخل إلى قلب
أحد، وكيف
يتحبّب إليه،
ويستدرّ
عطفَه، ويكسب
ودَّه،
ويُمْلِي
عليه إرادتَه.
إنها «المفتاح
الذكي»
(Master Key)
لأقفال
القلوب، و«الآلة
السحريّة»
التي
تُصَدِّع
صُمَّ الصفا.
إنها وحدها
التي تُعَلِّم
المرأَ كيف
يفاتح من هو
مُقْبِلٌ
عليه لحاجة
ما، ليترك في
نفسه «الانطباعة
الأولى»
التي تكون هي «الانطباعة
الأخيرة
النهائية»
(First
Impression is Last Impression) .
لو
أن كلَّ بليد
وبَلْدَم
عَلِمَ أن
شؤون الحياة
إنما تتحقق عن
طريق اللباقة
بسهولة لا سهولة
بعدها، وعلى
مستوى أحسن لايُتَصَوَّر
فوقه، لسَعَىٰ
إلى تعلّمها
واقتنائها
بأبهظ
التكاليف وأغلى
الأثمان،
ولتجشّم
إليها أصعبَ
الصعوبات،
وأخذ بها بكلّ
حيلة.
لابدّ
من اللباقة في
الزيارة
واللقاء،
واللباقة في
طرح الحاجة
لدى أحد،
واللباقة في
الخطاب
والكتاب،
واللباقة في
المحادثة
والنقاش، واللباقة
في التعامل مع
من فوقك ومع
من تحتك، واللباقة
في كل قضية
تعني أي فرد
في المجتمع؛ فهي
لاتخصّ
قطاعاً دون
قطاع في
الحياة، وإنما
تعم جميعَ
قطاعات
الحياة.
والحقُّ أنها
جزءٌ من «حسن
الخلق»
الذي أشاد به
النبي – صلى
الله عليه
وسلم - في أحاديث
عديدة، فقال
فيما يرويه
أبوالدرداء - رضي
الله عنه –
: «ما
من شيء أثقل
في ميزان
المؤمن يوم
القيامة من
حسن الخلق»
(رواه
الترمذي،
وقال: حديث
حسن).
إنَّ
اللباقة تفتح
لك كلَّ
مُغْلَق من
الباب، وكلَّ
مسدود من
الطريق،
وتُوَفِّر لك
الإمكانيات
من حيث لا
تحتسب، وتجعل
مخاطبَك ينشرح
صدره لك،
ويتفتح قلبه
لما تحتاج
إليه منه، ويقتنع
عقله بأعذارك
التي طرحتَها
لديه، وقد
يَطْرَب
لسلوكك الذكي
الظريف
اللطيف، فيُعْجَب
بك إعجاباً لا
يُزَايِله
مادام حيًّا،
فيعود محبًّا
لك، حريصاً
عليك، مشيدًا
بذكرك كلما
سنحت
المناسبة
وتأَتَّت
الفرصة، ومدافعاً
عنك لدى
خصومك،
ومناصرًا لك
في كل موقف.
اللباقةُ
تحتاج إليها
إذا كنتَ
داعياً،
لتنفذ في قلوب
المدعووين،
وتكسبهم بدون
عناء للدعوة التي
تقوم بها
فيهم؛ وتحتاج
إليها إذا
كنتَ مُدَرِّسًا،
حتى تكون
مُدَرِّساً
مُوَفَّقًا
ناجحاً كلَّ
النجاح في
توصيل
الموادّ إلى أذهان
الطلاّب،
وحتى تكون
مُدَرِّساً
محبوباً مهوى
أفئدة
تلاميذك،
فتتمكن من
القيام بعمليّة
الإفادة أكثر
من غيرك الذي
يفقد هذه الصفة
التي هي
جِمَاعُ
الصفات
الإيجابيّة
الكثيرة؛
وتحتاج إليها
إذا كنت
تاجرًا لتجذب
العددَ
الكبير من
الزبائن،
الذين قد
لايتوجّهون إلى
غيرك من
التجار بعد ما
يجربونك مرة
واحدة؛ وتحتاج
إليها إذا
كنتَ مديرًا
لمكتب أو
لمؤسّسة أو
لمعهد تعليمي
أو لمدرسة أو
لجامعة أو
لمصلحة من
المصالح؛
لأنك بها
وحدها تسترقّ
من تحتك من
العمال
والموظفين،
والطلاب
والمدرسين، والأساتذة
والعاملين،
فيعملون في
دائرة اختصاصاتهم
ووظائفهم عن
رضا قلب
وطواعية نفس،
وقد لايُحِبُّون
أن يفارقوك
إلى غيرك،
إيماناً منهم
أنهم قد
لايجدون
مثلَك.
وبالجملة إنك
تحتاج إليها
رئيساً كنتَ
أو مرؤوساً،
حاكماً كنتَ
أو محكوماً،
فقيرًا كنتَ
أو غنيًّا،
حُرًّا كنتَ
أو عبدًّا.
إنها حاجةُ
كلّ إنسان من كلّ
قطاع من
قطاعات
الحياة؛
ليُؤَدِّي
دوره في
الحياة أداءً
مُقْنِعاً
على مستوى
مرضيّ.
الإنسانُ
لا يتأذّى من
اللَّبِق
الظريف النبيه
في موقف من
المواقف،
وإنما يتأذّى
من البليد
الأخرق
الأحمق
الأَبْلَه
الذي لا يُفَرِّق
بين
التُّرَاب
والتِّبْر،
وبين الغِثّ والسمين،
وبين الدُرّ
والمَخْشَلَب.
البليدُ البَلْدَم
مصيبةٌ من
المصائب،
إنّه يفاجئك
كالآفات
والنوازل،
ويُكَلِّفك
الكثيرَ من
الخسائر،
ويُضيع عليك
ما لا يُعَدّ
من المصالح، ويصيبك
بصدمات
نفسيّة
وإفلاسات
معنويّة، ويجعلك
تعتصر من
الألم،
وتتحطّم من
الأسف، وتعود
مُعَطَّلاً
من الأعمال
لمدى طويل،
وتعود بحيث
لايُسْعِفك
علاجٌ، ولا
ينفعك دواءٌ،
ولا يفيدك وصفةُ
طبيب.
وإن
كنتَ –
لا قَدَّر
الله –
مبتلىً بهذا
الداء الكريه
المؤذي،
فَصاحِبِ
اللّبِقَ
النبيهَ
الحسنَ
الخلق،
ودَاوِه بصحبته
الملازمة؛
حتى تبرأ منه
وتعود –
باذن الله – مُعَافىً
صحيحاً
مُتَمَتِّعاً
بما فيه من اللّباقة
التي يغبطه
عليها أعضاءُ
المجتمع الذي
أنت فردٌ فيه.
نِعَمُ
الله تعالى لا
تُـحْصَىٰ:
«وإِنْ
تَعُدُّوا
نِعْمَةَ
اللهِ لا
تُـحْصُوهَا»
(إبراهيم/34)
واللّباقةُ
من نعمه –
تعالى –
الغالية
السامية؛ فمن
فاز بها فاز بحظّ
وافر؛ لأنه
وَجَدَ
مفتاحَ
السعادة وآلةَ
النجاح
الآليّة
الأوتوماتيكية،
التي لايحتاج
معها إلى
إعمال حيلة،
أو استخدام
الرجل أو
اليد، أو
استعمال فكر
عقليّ.
اللبقُ
أَسْعَدُ
حظّاً من غيره
في الحياة، لايتعرّض
للمشاكل
كغيره من
أفراد
المجتمع؛ لأنّ
لباقته تحول دون
كل أذى، وتمنع
منه كل مشكلة
وتعقيد، فيعيش
الحياة آمناً
مستريحاً من
كل ما يُكدِّر
صفوَ الحياة
ولذّةَ العيش
وطيبَ
التعامل مع شؤونها
بأنواعها. إنه
يعيش الحياةَ
محظوظاً مكفولاً
الشيءَ
الكثيرَ من
القضايا التي
يحار في حلّها
عامّةُ
الإنسان الذي
لم يُخْلَق حَظِيًّا
سعيدًا مثلَه.
واللباقةُ
قد يكون
المرأُ
مخلوقاً
عليها بالفطرة
قد عُجِنَتْ
طينتُه بها،
وقد يكسبها بصحبة
اللبق النبيه
وملازمته
طويلاً، فهذه
الصفةُ
كغيرها
مكسوبة يجوز
تلقّيها
بصحبة مؤثرة
للإنسان
السعيد الذي
يتمتع بها،
حتى يكون
نسخةً منه،
ينهج منهجَه
في التعامل
والسيرة
والأداء.
والإنسانُ
خَلَقَه الله
عجيباً، إذا
حَاكَىٰ
أحدًا، صار
مثلَه في
الصفة
والعادة
والسيرة التي
حاكاه فيها؛
ومن ثمّ يسوءُ
بصحبة السَّيِّء،
ويَصْلُح
بصحبة
الصالح،
ويجهل بملازمة
الجاهل،
ويتعلّم
بمرافقة
العالم؛
فيكون طبيباً
ولم يكن من
قبل، ويكون
مُهَنْدِساً،
ولم يكن من
قبل، ويكون محدّثاً
أو مفتياً، أو
فقيهاً أو
أديباً؛ أو شاعرًا
أو كاتباً،
ولم يكن من ذي
قبلُ؛ فيجوز
أن يكون لبقاً
قد تعلّم
أساليبَ
الحياة
والتعامل
معها بطريق
حكيم، ولم يكن
كذلك من قبل.
وذلك بصحبة
لبق ماجد
كريم، لأن
الصحبة
مؤثرةٌ للغاية،
فاعلةٌ فعلَ
السحر، تأتي
بالعجب العجاب
الذي يحير
الألباب.
على
كُلّ، فهي
حاجةٌ
قُصْوَىٰ لكل
إنسان من كل
نوع ومن كل
جنس، ليحيى
الحياةَ كما
ينبغي،
وليؤدي دورَه
فيها كما هو
المطلوب منه،
وليشعر
بالسعادة هو
ومن يتعامل
معه في أي أمر
من أمور
الحياة.
(تحريرًا
في الساعة 11 من
ضحى يوم
الأربعاء:
9/ربيع الثاني
1434هـ = 20/فبراير 2013م)
أبو
أسامة نور
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم
ديوبند ،
جمادى الاولى
1434 هـ = مارس ، أبريل
2013م ، العدد : 5 ،
السنة : 37